-1-
أصر زميلي (عادل) أن نقضي تلك الليلة الرهيبة في شقته. كانت الليلة
السابقة لإمتحان مادة من أصعب مواد الكلية في هذه السنة وربما في كل
السنوات.. الخوف من الرسوب دفعني للاستجابة لإلحاحه علي بأن نقضي الليلة
في المذاكرة ومراجعة ما فاتنا. وإن كنت أعتقد أن مجموع معلوماتنا معا عن
المادة لا تكفي حتى لإدراك درجة النجاح !
شيء ما يدفعنا لتأجيل مذاكرة المواد التي لا نحبها حتى الساعات الأخيرة ،
وتمضي تلك الساعات في رعب وقلق .. لكن ما حدث لي تلك الليلة كان رعبا
مختلفا ..
يسكن (عادل) في الطابق الرابع ولا يوجد في بنايته الصغيرة مصعد ، فكان علي
أن أصعد السلم حاملا حقيبتي المليئة بالكتب والأوراق على ظهري . وصلت
الطابق الرابع فوجدتني ألهث من التعب. دققت على باب الشقة وانتظرت حتى
يفتح لي (عادل) .. وأخذت أتسلى بالنظر إلى السلم الذي صعدته فخيل إلي أنه
أصعب سلم صعدته في حياتي.لم يكن هناك أي شخص يصعد أو ينزل ، ولا صوت في
المبنى كله .
رجعت إلى باب الشقة مرة أخرى فأحسست أن هناك من يقف خلف الباب ينظر إلي من
"العين السحرية". تراجعت عن الباب بحركة لا شعورية وأنا أتساءل إن كان
(عادل) هو الذي خلف الباب فلماذا لا يفتح مباشرة وهو يعلم أني قادم له ؟
هل هناك شخص آخر في الشقة ؟
رجعت خطوة أخرى نحو السلم وأنا أدس يدي في الحقيبة لأخرج هاتفي المحمول
لأكلم (عادل) ، وفي نفس اللحظة انفتح الباب .. ارتجفت رغما عني عندما أحدث
الباب صوتا عجيبا وظهر من خلفه (عادل). ضحك (عادل) وقال :"هل أفزعتك ؟ ..
أدخل."
تبخر القلق عندما رأيته ، وإن كنت أحسست بشيء من الإنقباض عندما دخلت
شقته. على اليسار كانت هناك غرفة نصف مفتوحة لمحت فيها سفرة فعرفت أنها
غرفة الطعام. وإلى جوارها غرفة مضاءة الأنوار ، وفي آخر الشقة غرفة ثالثة
لا أرى من موضعي إن كانت مفتوحة أم لا. ولا أرى محتوياتها.
شيء ما بداخلي كان يدفعني لأن أعتذر له وأهرول هاربا إلى خارج الشقة ،
لكني لم أجد مبررا معقولا لهذا التصرف ، فلم أفعله. وإن كنت أنتظر أي حجة
لكي أعود لبيتي فورا. رحب بي (عادل) وقادني إلى الغرفة المضاءة حيث كان
يجلس محاولا فك رموز هذه المادة العجيبة التي سنمتحن فيها بعد اثتني عشر
ساعة فقط !
قال : "جميل أنك أتيت .. هل تعرف ماذا أحضرت لك الليلة ؟ حلول كاملة
لامتحان العام الماضي .. ليست حلولا عادية وإنما الحلول النموذجية ..
أخذتها من الطالب الأول على الدفعة التي قبلنا". كان يفتش في الأوراق
المتناثرة أمامه عن الحلول بينما جلست أنا على مقعد بجوار جهاز "كاسيت"
ونظرت إلى الشريط بداخله فوجدته لـ (عمرو دياب).. فضغطت على زر التشغيل ،
لعله يذهب شيئا من الرهبة التي أحس بها منذ جئت .
خرج (عادل) ليبحث عن ورق الحلول في الغرفة المجاورة وعاد ممتقع الوجه وقال
:" يبدو أنني نسيت الورق في المكتبة في آخر الشارع ! يجب أن أسرع باحضاره
قبل أن تغلق وإلا فسنضيع في هذه المادة..
حملت حقيبتي وقمت قائلا :"ساذهب معك ونحضرها". أجلسني باشارة من يده وقال
: "لا تقلق ، سأذهب أنا بسرعة وأحضر الأوراق وبعض المشروبات من البقالة.
انتظرني هنا وحاول أن تبدأ المذاكرة حتى لا نضيع المزيد من الوقت".
لم تكن فكرة النزول والصعود مرة أخرى على ذلك السلم الرهيب ممتعة بالنسبة
لي ، لكن بقائي وحدي في هذه الشقة كانت فكرة مخيفة. هممت بالاعتراض لكنه
كان قد تناول مفاتيح الشقة واتجه نحو الباب بالفعل. فتح الباب وقال وهو
يغادر بصوت عال وصلني وأنا في الغرفة أستمع ل(عمرو دياب) وأحاول ترتيب
الأوراق التي أخرجتها من حقيبتي :"لا تفتح الباب لأي شخص ، أنا معي
المفتاح .. هل تسمع ؟ لا تفتح الباب أبدا". وأغلق الباب بعنف.
لم تكد الأغنية تنتهي حتى سمعت دق الباب ! دقات سريعة ضعيفة لكنها عميقة.
وصلتني عندما توقف صوت "الكاسيت" بين الأغنيتين ولعلها كانت تدق من قبل
هذا ولم أسمعها. قمت مفزوعا وبحذر اقتربت من الباب ونظرت من "العين
السحرية" ففوجئت بها : فتاة صغيرة لم تتجاوز الثامنة تقف مرتبكة أمام
الباب وتدق باصرار.
لا ضرر من فتح الباب ، إنها طفلة صغيرة على كل حال ، وهذا ما توهمته وقتها
، فتحت لها فقالت فورا وكأنها تعرفني :"إذا سمحت يا سيدي ، هل يمكن أن
تفتح لي الباب لأن والدتي تركت لي المفتاح لكني لا أستطيع أن أحركه في
القفل الثقيل". قلت : "وأين تسكنين ؟" أشارت ببراءة مطلقة إلى السلم
الصاعد إلى أعلى فقلت متشككا :" في أي طابق تحديدا ؟" قالت :"في الطابق
التالي ، فوقكم تماما .. من فضلك تعال معي !"
حسنا .. إنها خدمة إنسانية سريعة .. تركت باب شقة (عادل) شبه مفتوح وصعدت
معها.. فتحت لها الباب بالمفتاح وأعطيته لها فدخلت بسرعة وأغلقت الباب دون
كلمة شكر واحدة .. فقلت لنفسي أنها ربما لا تجيد التعامل مع الغرباء أو
لعلها خائفة مني..
نزلت مسرعا على السلم.. لم يستغرق صعودي وفتح الباب ونزولي أكثر من نصف
دقيقة ، لكني عندما لمحت باب شقة (عادل) صعقت !! لم يكن كما تركته بل كان
الباب مفتوحا على مصراعيه !
أنا متأكد أنني عندما صعدت مع الفتاة لم يكن هناك أحد على السلم أو بالقرب
من باب الشقة حتى يتمكن من تحريك الباب بهذه السرعة ثم يختفي.. إلا إذا
كان قد اختفى داخل الشقة نفسها !
دخلت بحذر شديد قائلا :"من هناك ؟" وعندما وصلت لمنتصف الشقة حدث أمر طبيعي ومناسب جدا : لقد انقطع التيار الكهربائي !!
- 2 -
لا أذكر أني تعرضت لموقف كهذا من قبل .. الشقة مظلمة تماما والباب مفتوح
والسلم مظلم أيضا ، وأنا في وسط الشقة لا أعرف إن كان علي أن أغادرها أم
أنه من الحكمة أن أظل بداخلها. هل هناك شخص ما – أو أشخاص – دخل الشقة في
الثواني التي كنت فيها مع الفتاة في الدور العلوي ؟ هل هناك آخرين على
السلم سيصعدون الآن ؟ هل هي عصابة من اللصوص وهل الفتاة معهم أم إنها
بريئة ووجودها صدفة ساعدت ذلك المجهول الذي فتح باب الشقة على آخره..
هناك احتمال أن يكون (عادل) يمزح معي ، لكنه غير وارد اطلاقا ، خاصة في
ليلة الامتحان. ثم إن الكهرباء مقطوعة عن المنطقة كلها والظلام مطبق حتى
إنه لو كان هناك من يدخل الشقة من الباب في هذه اللحظة فلن أستطيع رؤيته ..
فكرت أنه من الأفضل أن أتخلى عن الأفكار التي تبدو سخيفة وأن أتظاهر بأن
كل شيء على ما يرام.. أغلقت باب الشقة ودخلت أتحسس طريقي إلى الغرفة التي
كنت أجلس فيها محاولا اقناع نفسي بأن الهواء هو الذي حرك الباب وفتحه..
وأن انقطاع التيار الكهربائي مجرد عادة تحدث دائما في ليالي الامتحانات
عندما يزيد الضغط على شبكة الكهرباء بسبب أن جميع البيوت فيها طلبة
يذاكرون طوال الليل ..
ثم إن دخولي إلى الشقة كان أكثر أمانا من مغادرتها ، على الأقل أنا بجوار
هاتفي المحمول ، إن حدث أي طارئ ساتصرف.. تذكرت الهاتف ومددت يدي أبحث عنه
تحت الأوراق بعصبية لأضيء شاشته ، عندما سمعت صوتا عجيبا من الغرفة
المجاورة. توقفت عن الحركة وعن التنفس وابتلعت ريقي وكررت الشهادتين في
سري عدة مرات .. حتى عادت الكهرباء فجأة وظهرت الشقة مرة أخرى ..
وأكاد أقسم أن الشقة في النور مخيفة أكثر منها في الظلام .. على الأقل
الظلام سيكون سترا لي من الشخص المتخفي في الغرفة الأخرى.. أما الآن
فسيراني بسهولة ، ويتمكن من اصابتي بسلاحه إن كان يحمل واحدا..
جريت للمطبخ وانتزعت سكينا كبير ثم بدأت بتفتيش الشقة من الصالة إلى
الغرفة التي كنت فيها فالحمام فالغرفة البعيدة التي لم أرها جيدا عندما
دخلت أول مرة مع (عادل) .. لم يكن هناك أحد أو شيء غير طبيعي.. تبقى فقط
الغرفة الأولى بجوار باب الشقة .. غرفة الطعام ..
أنا متأكد من أني رأيت باب الغرفة مفتوحا عندما دخلت أول مرة ، ولمحت جزءا
من مائدة الطعام لكن باب الغرفة الآن مغلق ! هل أغلقه (عادل) قبل أن ينزل
؟ لا أظن فقد نزل بسرعة .. إذن يحتمل أن يكون هناك من دخل إلى الغرفة
أثناء وجودي خارج الشقة وأغلق الباب عليه..
لن أظل في رعب الاحتمالات هذا .. يجب أن أحسم الأمر .. مددت يدي لافتح باب
الحجرة فوجدته مغلقا .. إن هناك شخص أو شيء ما بالداخل ولا ريب .. وهو
الذي كان يحدث الصوت العجيب أثناء انقطاع الكهرباء..
ما العمل الآن ؟ جريت لهاتفي المحمول واتصلت بـ (عادل) وعيني على باب
الغرفة المغلقة وفي يدي الأخرى السكينة .. لكن (عادل) كان قد نسي هاتفه في
الصالة فسمعت رنة الهاتف من خلفي ففزعت .. ثم انتبهت إلى أني فقدت تماسك
اعصابي تماما رغم أنه لم يحدث عمليا أي شيء غير طبيعي .. لعل الغرفة مغلقة
لأن (عادل) أغلقها قبل أن ينزل ، ربما كان فيها شيء مهم يخاف عليه مني
مثلا ..
عدت للغرفة التي فيها حقيبتي وأوراقي وأدرت "الكاسيت" مرة أخرى.. اندمجت
مع الأغنية قليلا دون أن تفارق السكينة يدي.. وفجأة سمعت دقات على باب
الشقة ! نفس الدقات السابقة ولكنها كانت أقوى هذه المرة حتى أني سمعتها
رغم أن (عمرو دياب) كان صوته يكاد يغطي عليها ..
"
يدق الباب ..
أقول هيا ..
أقول رجعت ..
خلاص ليا !!
"
خرجت للصالة وعيني مترددة بين باب الشقة وبين الغرفة التي لم استطع فتحها
.. نظرت من "العين السحرية" فوجدت أمرأة شابة ، فيها كثير من الشبة من
الطفلة التي صعدت معها منذ قليل. فتحت الباب فورا ، فرؤيته انسان طبيعي
مسالم رقيق مثل هذه المرأة هو أكثر شيء أحتاجه في هذه اللحظة ، رأيتها
فتجمدت ! كانت ملامحها قريبة جدا من البنت حتى ظننت أنها والدتها ، فقلت
:" لقد فتحت الباب لابنتك وهي في البيت الآن" وأشرت لأعلى . بدت عليها
الحيرة وهي تقول : "من ؟ ابنتي ؟ أنا لست متزوجة وليس عندي أبناء. أنا
جارتكم في الدور العلوي وأريدك أن ..." وفجأة صرخت !
أفزعتني صرختها حتى الموت وانتفضت من مكاني أنظر في كل الاتجاهات وقلت لها
: "ماذا .. ماذا هناك ؟". تراجعت مفزوعة وأشارت إلى يدي قائلة :"لماذا
تمسك هذه السكين في يدك ؟ ضعها فورا لو سمحت !"
إذن هذا ما كان يفزعها ، وضعت السكين على منضدة صغيرة في الصالة ثم رجعت
إليها ، وقلت بنفاد صبر :" أي خدمة ؟" قالت بخجل :" أسفة إن كنت أفزعتك ،
لكن منذ عشرة دقائق جاء رجل ليغير أنبوبة البوتجاز.. أخذ الأنبوبة القديمة
ونزل ليصعد بالجديدة عندما انقطعت الكهرباء ، ولكنه تركها هنا أمام منزلكم
بدلا من أن يصعد بها للدور التالي .. لعله أخطأ بسبب تشابه الأدوار
وانقطاع الكهرباء. هل يمكن أن تحملها إلى الدور العلوي ؟ فقط ضعها أمام
الباب وأنا سآخذها للداخل وأركبها .."
لم تترك لي فرصة الجواب بالموافقة أو الرفض ، لكنها استدارت وصعدت السلم .
حملت الأنبوبة وصعدت خلفها ، بعد أن تأكدت من وضع كرسي أمام باب الشقة حتى
لا يتحرك. ودفعت كرسيا آخر خلفه حتى لا يستطيع أحد الدخول أو الخروج دون
أن أشعر به.. ظللت متابعا باب الشقة حتى اختفى عن عيني وأنا أصعد السلم..
ففوجئت بالمرأة تفتح نفس الباب الذي فتحته للفتاة منذ قليل. فسألتها :"
ألا تعيش معك بنت صغيرة هنا ؟ لقد فتحت لها الباب منذ دقائق قليلة" ووضعت
الأنبوبة أمام الشقة وأنا أنتظر رد سؤالي لكنها نظرت لي في حيرة وقالت
:"لا . أنا أعيش وحدي هنا .. لا أحد معي .. وليس هناك مفاتيح أخرى للباب
غير هذا الذي معي".
لم أجادل كثيرا لأني تركت باب شقة (عادل) مفتوحا . نزلت بسرعة للشقة. لم
أسمع أي صوت لحركة الكراسي وأنا فوق لذلك توقعت أن أجدها كما تركتها..
لكني رأيت عجبا : لقد كانت الكراسي ملقاه بالداخل والباب مفتوح على أخره !
هناك شخص ما هنا بلا شك. جريت لأعلى لأطلب مساعدة السيدة لكني وجدتها قد
أغلقت الباب بعد أن أدخلت الأنبوبة ولم تستجب لطرقاتي على بابها ..
تذكرت أيضا أنها لم تشكرني بعد أن حملت لها الأنبوبة.. إنها غريب الأطوار
مثل تلك الفتاة قريبتها .. لماذا تنكر وجودها ؟ نزلت للشقة مرة أخرى
وتوجهت للمنضدة لأجلب السكين ، إنها تعطيني شيئا من الأمان .. لكن السكين
أختفت من مكانها ! تركت باب الشقة مفتوحا وهرولت في رعب للمطبخ لأحضر
سكينا آخر ، ولاحظت أن الغرفة المجاورة للمطبخ قد أغلقت أيضا ، وبالتالي
كانت هناك فقط غرفة واحدة مفتوحة ، تلك التي فيها أغراضي. بينما الغرفتان
الأخرتان مغلقتان !
أنا متأكد أني منذ قليل دخلت هذه الغرفة التي أغلقت الآن وفتشتها. ما هذا
العبث ؟ لا ينقص الآن إلا أن ينقطع التيار الكهربائي من جديد ، وهو ما حدث
بالفعل !!
- 3 -
الوضع الآن كما يلي :
أنا في المطبخ لم ألتقط سكينا بعد ، والكهرباء مقطوعة.. الغرفة التي بجوار
المطبخ والأخرى التي عند باب الشقة مغلقتان ولدي شبه يقين أن فيهما شيئا
أو أشخاصا.. وتأكد ذلك اليقين مع انبعاث أصوات حركة في الغرفتين ومن أسفل
باب الغرفة المجاورة للمطبخ رأيت اضاءة مهتزة كأنما رجل يحمل شمعة ويتحرك
في الغرفة ..
أستدرت لرف السكاكين لألتقط واحدة وتحسست بيدي كل الأماكن التي يمكن أن
تكون فيها أداة حادة ولكني لم أجد حتى ملعقة أو شوكة واحدة.. أنا أعزل
تماما ، ربما كان الخيار الأفضل في هذه الحالة هو الفرار.. جريت بأقصى
سرعة نحو باب الشقة مصطدما بكل الأشياء في طريقي .. مددت يدي لأفتح باب
الشقة لكنه لم ينفتح !
أنا محبوس هنا إذن ! لم أضيع وقتا ، جريت إلى الغرفة الوحيدة المفتوحة ،
فتحت الشباك لأصرخ وأنادي أحدا لينقذني ، لكن الشباك كان يطل على المنور..
صرخت رغم ذلك مستغيثا بالسكان ولكن لم يجب أحد ولم يبد أن هناك سكانا أصلا
في المبنى.. أخرجت هاتفي المحمول فوجدت الشبكة لا تعمل.. تذكرت هاتف
(عادل) الموجود في الصالة وجريت لهناك متحسسا طريقي إلى موقعه .. ولكنه
كان مقطوعا عن الشبكة أيضا ، رغم أنها شبكة مختلفة عن شبكتي..
انهرت تماما وقد فرغت جعبتي من الحلول ، فجلست أرتعد على الأريكة في الصالة منتظرا ما سيحدث..
وفجأة عاد التيار الكهربائي وهدأت كل الأصوات.. قمت مسرعا لباب الشقة
محاولا فتحه لكنه كان لا يزال مغلقا.. رجعت للغرفة المفتوحة .. لممت
أوراقي وأغراضي كلها في الحقيبة وجلست في انتظار قدوم (عادل) .. أدرت
"الكاسيت" مرة أخرى. إن صوت (عمرو دياب) محبب إلى قلبي في العادة .. لكني
لا أعرف لماذا يصدر الصوت من هذا "الكاسيت" غريبا وعميقا .. أكاد أحس
بكلمات الأغنية الخفيفة وهي تحمل معان كبيرة ، أكبر مما كان يتخيله مؤلفها
ومغنيها ..
غرقت في تأمل الأغنية عندما كسر الهدوء صوت الطرقات على باب الشقة للمرة الثالثة !
"
وأخاف
من فرحتي أفتح
تكون لاعبة الظنون بيا
وتطلع تاني مش هيا !
"
لم أقم هذه المرة .. وإنما تركت الطرقات مستمرة .. هناك احتمال لم أفكر به
من قبل وهو أن تكون الظنون فعلا هي التي تلعب بي وأن كل هذا خيال في خيال
! بعض الشباب سيء الخلق يشترون حبوب الهلوسة ثم يضعونها في مشروبات أو
عصائر قبل أن يقدمونها لأصحابهم .. ثم يتندرون فيما بعد بما حدث لهم من
تهيؤات وتخاريف أثناء الهلوسة..
وإن كنت لا أظن أن (عادل) سيء الخلق لهذه الدرجة ، والأهم من ذلك هو أنني
لم أشرب شيئا هنا.. هل وضع (عادل) في الهواء غازات هلوسة مثلا ، ولهذا
السبب نزل مسرعا ؟ وهل يعقل أن يكون المزاح السخيف في ليلة الامتحان بهذه
الطريقة ؟
لا تزال الطرقات مستمرة على الباب.. المشكلة هذه المرة هي أن الباب مغلق أصلا وقد حاولت فتحه منذ قليل فلم أستطع..
خطر لي أنه ربما تكون هذه الطرقات من (عادل). قمت بسرعة وخرجت للصالة ثم
نظرت من "العين السحرية" فإذا هي امرأة عجوز. حاولت فتح الباب رغم معرفتي
بعدم جدوى المحاولة ، لكنه – ياللعجب – انفتح !
لم يعد لدي شك في أن كل هذا مزحة كبيرة .. سوف يظهر أحد الثقلاء بعد قليل
ليقول إن كل الأحداث تم تصويرها ويستأذنني في اذاعتها. ابتسمت لهذا الخاطر
ونظرت للسيدة منتظرا أن تقول شيئا . قالت :"أشكرك يا بني يا (عادل) .. لقد
استلمت الأمانة .. أحببت فقط أن أشكرك لأنك حفظتها لي".
يبدو أن السيدة ضعيفة النظر .. قلت لها موضحا :"أنا لست (عادل) .. أنا صديقه".
استدارت صاعدة إلى الدور العلوي دون أن يبدو عليها أنها استمعت لعبارتي.. إنها لا تسمع جيدا أيضا ..
حسنا ، لقد سئمت هذا الجنون .. سأعود لمنزلي فورا. خرجت من الشقة وأغلقت
بابها ونويت الرحيل. لكن شيئا من الفضول دفعني للصعود خلف المرأة لأرى إن
كانت تسكن في نفس الشقة العجيبة في الدور العلوي.. تسللت خلفها دون أن
تشعر ورأيتها تفتح بابا آخر في ذلك الدور .. ليس هو نفس الباب الذي دخلت
فيه الفتاة والسيدة الأخرى.
صرخت فيها بأعلى صوت كي تسمعني :"هل تعرفين يا سيدتي من يسكن في هذه الشقة
؟" وأشرت للباب الآخر. نظرت لي في حيرة وقالت:"هذا الباب يؤدي إلى شقتي
أيضا ، ولكني أحب الدخول من هذا الباب لأنه أقرب لغرفتي". ثم دخلت وأغلقت
الباب خلفها..
هناك شيء ما يخبرني بأن هذه السيدة قريبة للفتاة والمرأة الأخرى. إنهم جميعا يسكنون في نفس الشقة ويشبهون بعضهم جدا.
كل هذا لا يعنيني الآن، سوف أعود لمنزلي فلدي مذاكرة كثيرة والتيار
الكهربائي ينقطع هنا بصورة مستمرة ، كما أن هناك أشياء غريبة تحدث ولا
أفهمها..
نزلت من الدور العلي إلى الدور الذي فيه شقة (عادل) وأنا أنوي مغادرة
العمارة كلها.. لكني فوجئت بأن باب شقة (عادل) الذي كنت أغلقته منذ قليل
مفتوح على آخره !!
هناك احتمال أن يكون (عادل) قد عاد إذن.. من غيره يملك مفتاح الباب ؟ إلا
إذا كان هناك من فتح الباب من الداخل طبعا.. دخلت الشقة بحذر وأنا أنادي
على (عادل).. لم يرد أحد ، كما أن الغرفة الثالثة التي كانت مفتوحة صارت
مغلقة الآن.. حاولت فتحها دون جدوى.. الآن فقط تأكدت أني يجب أن أعود
لمنزلي فورا..
ولأن التاريخ يعيد نفسه كما يقولون ، فإنه كان لابد أن ينقطع التيار الكهربائي للمرة الثالثة !
لا بأس ، هذه المرة أنا في الصالة وباب الشقة مفتوح ، ساخرج من هذا المكان
المجنون .. وقد عبرت الصالة عدة مرات من قبل في الظلام لذلك من المفروض
أني لن أصطدم بشيء هذه المرة وأنا أجري مغادرا..
ولكني لا أعرف لماذا اصطدمت بهذا الشيء ؟ لم يكن هناك من قبل .. مددت يدي
لاتحسسه فوجدته إنسانا ! أمسكني من ملابسي ومنعني من الخروج ..
وضاعت صرخاتي في ظلام الشقة وسكون الليل ..
- 4 -
لم تجد صرخاتي كالعادة.. فلم يأت أحد من السكان لنجدتي .. أخذت أضرب ذلك
المجهول بيدي وأركله بقدمي ليتركني دون فائدة ، رغم أنه كان يمسكني بيد
واحدة فقط !
وفجأة عاد التيار الكهربائي لأجد هذا الشخص هو (عادل) !
تركني مندهشا وهو يقول :"ماذا يحدث هنا ؟ لقد عدت من المكتبة فوجدت الشقة
مظلمة والباب مفتوح وعندما دخلت أحسست بشخص يتسلل خارجا ، فامسكته وإذا به
أنت ! كيف تفسر لي هذا الأمر ؟ ولماذا باب الشقة مفتوح ؟"
أخذت أستعيد هدوءي تدريجيا وضربات قلبي تعود لطبيعتها وأنا أحكي له ما حدث
.. قلت :" إن لديكم في الطابق العلوي جيرانا غرباء الأطوار ! فقد جاءت
فتاة و..." قاطعني (عادل) وعلى وجهه علامات الدهشة :"أي طابق علوي هذا
الذي تتحدث عنه ؟ عمارتنا أربع طوابق فقط وأنا أسكن في الطابق الأخير!"
قلت :"إذن هذا السلم يؤدي إلى السطح وتلك الشقة مبنية عليه . لقد صعدت إلى
هناك أكثر من مرة"
ازدادت حيرة (عادل) وهو يقول :"صعدت إلى أين ؟ وكيف صعدت أصلا ؟" سحبني من
يدي لخارج الشقة وهو يقول :"لا يوجد أي سلم يصعد إلى أي مكان !" نظرت في
ذهول إلى المكان الذي كان فيه السلم الصاعد لأعلى فإذا به جدار مصمت !
ذهبت إلى ذلك الجدار وتحسسته وطرقت عليه. إنه جدار حقيقي وعليه من التراب ما يشير إلى أنه موجود هنا منذ سنوات..
قلت ل(عادل) :"لا تقاطعني ، واسمع الحكاية كلها". سردت له ما حدث لي مع
تلك الفتاة الصغيرة والمرأة الشابة ثم السيدة العجوز ، وانقطاع التيار
الكهربائي المتكرر وانغلاق الغرف والأصوات وكل شيء. والحقيقة أنه لم
يقاطعني قط لأنه بلغ به الذعر حد عدم القدرة على الكلام ..
فلما انتهيت إلى اللحظة التي اصطدمت فيها به في الظلام نظر إلي في ارتياع
وقال :"ألم أقل لك لا تفتح الباب ؟ الله وحده يعلم ماذا بداخل هذه الغرف
الثلاثة المغلقة" قالها وهو يدخل الشقة بحذر وأنا خلفه.
وبعد عدة محاولات فاشلة لفتح الأبواب ، قلت :"لنكسر الأبواب إذن ، أو
لنتصل بالشرطة أو نستعين بالجيران.. يجب أن ننهي هذا الأمر لنعود
لمذاكرتنا .. لا تنس امتحان الغد"
صرخ في وجهي :"امتحان ؟ أهذا كل ما يهمك الآن ؟ ألا تدرك ما فعلته بشقتي ؟"
قلت في ضيق :"ماذا فعلت ؟ إنها كما تركتها تماما ، غير أن أبواب الغرف قد
أغلقها شخص معتوه وسنكسر أقفالها وساعطيك ثمن الأقفال إن كانت هذه هي
مشكلتك."
تابع صراخه :"ألا تتخيل ماذا يمكن أن يكون خلف هذه الأبواب؟"
هززت رأسي لا مباليا :"لا شيء ، ربما هناك لص ما مختبئ ، ولكننا سنجده ونقبض عليه.. ماذا عساه يكون خلف الأبواب غير ذلك ؟"
ومع نهاية عبارتي الأخيرة انفتحت الأبواب الثلاثة بسرعة وظهرت من خلف
الباب الأول الفتاة الصغيرة ، ومن الثاني المرأة الشابة ومن الثالث السيدة
العجوز .. فلما رآهم (عادل) صرخ :"اجري ، اهرب بسرعة".. ونزل مسرعا على
السلم وأنا خلفه أقول :"ماذا ؟ لماذا تجري هكذا ؟"
نظرت خلفي فإذا الثلاثة يجرون نحونا وقد استبدلوا بعيونهم كرات حمراء مشعة للتأكيد على أنهم ليسوا بشرا !
صرخت في (عادل) الذي كان ينزل على السلم أمامي :"أنا لا أفهم شيئا ..
لماذا تطاردنا هذه الأشياء ؟" وصلت للدور الثاني وهو يصيح :"انزل بسرعة
وسأشرح لك" ، نظرت خلفي فوجدت الثلاثة ينزلون خلفنا بسرعة كبيرة ، حتى
السيدة العجوز كانت تجري على السلالم كأنها طفلة..
نزلنا دورين أو ثلاثة ، وقال (عادل) وهو يتابع النزول وأنا خلفه :"لقد
اشتريت هذه الشقة من رجل شرير .. يقولون أنه أخذ الشقة ظلما من طفلة يتيمة
ونسب مليكتها لنفسه ثم طرد الطفلة لمكان مجهول"
"لقد كان ثمن الشقة رخيصا ومناسبا جدا ، لذلك اشتريتها وأنا أعلم أنها
مسروقة ، لكني قلت لنفسي أني إذا لم أشترها سيأخذها غيري وأنا أشتريها
بمالي الحلال وليس من شأني أنها مسروقة أو لا.. هذا خطأ صاحب الشقة وليس
ذنبي"
نزلنا دورين آخرين وتابع (عادل) :" لكني فوجئت بهذه الفتاة تظهر لي في
منامي ، أراها في أنحاء الشقة ، في طريقي للكلية .. إنها تريد العودة
لدارها وتعتقد أني سرقتها منها"
نزلنا دورا أخر. قال (عادل) :"بحثت بعد ذلك عن الفتاة كي أعيد لها حقها
واتفق معها على ايجار الشقة أو نسوي الأمر بيننا ، لكني عرفت أنها ماتت !"
نزلنا ثلاثة أدوار أخرى وقد بدأت أتعجب ، قال (عادل) :"أصبحت الفتاة تظهر
بصورة امرأة شابة وأحيانا سيدة عجوز ، إنها تريد أن تحيا عمرها الضائع في
منزلها ، وهذا حقها.. ولكن ما ذنبي أنا ؟"
قلت ل(عادل) :" ألا تلاحظ شيئا غريبا ؟ لقد نزلنا أكثر من عشرة أدوار حتى
الآن ولم نصل للدور الأرضي ، رغم أن عمارتكم أربعة أدوار فقط ! ما هذا
العبث الذي يحدث هنا ؟"
قال (عادل) وهو يلهث :"استمر في النزول .. إن الفتاة تعاقبنا ، وسنظل ننزل
هكذا بلا نهاية حتى نموت من التعب.. لقد كانت تهددني بالعذاب الأبدي كلما
رأيتها.. ويبدو أن لحظة الحساب قد جاءت مبكرة ودون أن أتوقعها "
نظرت خلفي نحو الأشباح الثلاثة فإذا هم مستمتعون بالنزول خلفنا .. قلت
ل(عادل) :"سامحني ، لقد كنت أنا السبب في هذا ، لم أسمع كلامك وفتحت لهم
الباب". لم يرد (عادل) فقد كان الإرهاق قد بلغ به درجة كبيرة وهو يجري على
السلم النازل إلى الأبد ..
أما أنا فلم استطع مواصلة الجري فوقفت وقلت صائحا :"إن هذا العقاب لك وحدك
.. أنا لم أرتكب ذنبا .. لم أفعل ما يستوجب العقاب ، إن كان خطأي هو عدم
تنفيذ تنبيهك فقد أخذت نصيبي من العقاب وجريت ما يكفي"
واستندت للحائط وأنا ألهث بينما مرت الأشباح الثلاثة بجواري دون أن تنظر
إلي ، ولكنها عندما تجاوزتني التفتت إلى الفتاة وغمزت لي بعينها الحمراء !
واستمر (عادل) في النزول والأشباح من خلفه.. بعد قليل نزلت إلى الدور
الأسفل لأنظر ماذا يجري فوجدت السلم قد عاد طبيعيا .. نزلت الدورين
الآخرين وأصبحت في الشارع أخيرا ..
أوقفت سيارة أجرة وركبت فيها وأنا مذهول .. هل يمكن أن يخطيء المرء خطأ
صغيرا فيظل للأبد يعذب به ؟ وماذا عن أخطائي العديدة والمتكررة ؟ إني
استحق عذابا أكبر من هذا لو حسبتها..
نظر إلي سائق السيارة وقال :"إلى أين ؟"
أجبته :"إلي أي مكان .. فقط أبعدني عن هنا" ...